بعد انتصار المماليك على الصليبيين فى موقعة المنصورة ، ارتفعت أسهمهم لدى أهل مصر ، وفكروا ولأول مرة فى تاريخهم تولى مقاليد البلاد ، تعالوا لنتناول بشيء من التفصيل عما أحرزه المماليك من نصر على الصليبيين فى موقعة المنصورة ، وفترة حكم شجر الدر وعز الدين أيبك لمصر ، وكيفية وصول سيف الدين قطز إلى عرش مصر ، وهو الأمير الخوارزمي الذى وُلد فى بلاد ما وراء النهر.
* موقعة المنصورة وأسر ملك فرنسا:
بعد أن استعد المماليك لصد زحف الصليبيين ، دارت بين الجيشين موقعة المنصورة ، وقد انتصر المسلمون فيها انتصارًا باهرًا ، ثم حدث هجوم آخر على جيش لويس التاسع ، ولكن لويس قد تمكن من صد الهجوم بعد جهد مرير ، وفى تلك الأثناء وصل توران شاه وتولى مقاليد البلاد.
بعد خطة بارعة وضعها توران شاه وقادة المماليك استطاع الجيش المصري اللقاء بفلول الصليبيين ، ودارت معركة هائلة تحطم فيها جيش الصليبيين تمامًا ، بل وتم أسر الملك لويس التاسع مكبلاً بالأغلال ، ولم يتم إطلاق سراحه إلا بعد تنفيذه لشروط قاسية ، فخرج وسافر إلى عكا ، وكانت إمارة صليبية.
* مقتل توران شاه:
كان توران شاه شخصية لاهية ، وقد اتصف بسوء الخلق ، والجهل بشئون الحكم ، فبدأ يتنكر لزوجة أبيه (شجر الدر) ، بل وهددها بشدة ، حتى دخلها منه خوف شديد ، كما بدأ يتنكر لأمراء المماليك ، وبدا واضحًا أنه سيقوم بعمليات تغيير واسعة النطاق فى السلطة ، ولعل عمليات التغيير تلك مصحوبة بالعنف والدماء.
خافت شجر الدر على نفسها ، وأسرت بذلك إلى المماليك ، وقد كانوا يكنون لها كل الإحترام ، وكان فى نفوسهم نفس ما كان فى نفسها ، فاجتمع الرأي على سرعة التخلص من توران شاه قبل أن يتخلص هو منهم.
كان عند المماليك تساهل كبير فى الدماء ، فكانوا يقتلون بالشك ، وقد يكون ذلك راجعًا إلى التربية العسكرية الجافة التى نشأوا عليها ، ولكن القتل بالشك ليس من الإسلام فى شيء.
تم قتل توران شاه بعد سبعين يومًا فقط من قدومه مصر ، وكأنه قطع كل هذه المسافات لكي يدفن ، لا لكي يحكم ، وهكذا كان مقتل توران شاه انتهاء لحكم الأيوبيين فى مصر ، وبذلك أغلقت صفحة من مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي.
* شجر الدر حاكمة لمصر:
بمقتل توران شاه ، حدث فراغ سياسي كبير فى مصر ، فلا يمكن للمماليك أن يسلموا مقاليد الحكم لأيوبيي الشام ؛ لأنهم حتمًا سيقتلونهم للثأر لتوران شاه ، كما أن قوة مصر الفعلية للمماليك ، الأمر الذى جعل المماليك – ولأول مرة فى تاريخ مصر – يفكرون فى القيام بمقاليد الأمور ، إلا أن تقبل حكمهم سيكون صعبًا فى ذهن الأهالى ، لذلك فكروا فى تعيين حاكم مؤقت.
ذلك كان ما يدور فى أذهان المماليك ، أما شجر الدر ، فكانت امرأة قوية جدًا وشجاعة وجريئة ، وتتمتع بحكمة شديدة ، مما دفعها إلى التفكير فى الصعود إلى عرش مصر ، وفى ذات الوقت وجد المماليك فى شجر الدر ذلك الحاكم المؤقت الذى يريدونه ، فهي زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب الذى يكن الشعب له كامل الاحترام والوفاء.
وبذلك توافقت رغبات المماليك مع رغبة شجر الدر ، وقرروا إعلان شجر الدر حاكمة لمصر بعد مقتل توران شاه بأيام.
* عز الدين أيبك:
تفجرت ثورات الغضب فى كل مكان ، وعم رفض تلك الفكرة فى العالم الإسلامي ، و راحت شجر الدر تنسب نفسها للملك الصالح وابنه خليل والخليفة العباسي ، إلا أن الغضب لم يتوقف ، وخاصة أن البلاد فى أزمة خطيرة ، فالحملات الصليبية لا تتوقف ، كما أن أنهار المسلمين التى تنبع من زحف المغول ما زالت متدفقة ، وهكذا لم تنعم الملكة بيوم واحد ، ومن هنا قررت شجر الدر أن تتنازل عن الحكم لرجل تحكم عن طريقه ومن خلاله.
اختارت شجر الدر رجلاً من المماليك اشتهر بالعزوف عن الصراع ، والبعد عن الخلافات ، فوجدت فى ذلك الرجل ضالتها ، وكان هذا الرجل هو ( عز الدين أيبك التركماني ) ، ولم تختر شجر الدر رجلاً من المماليك الأقوياء من أمثال فارس الدين أقطاي ، أو ركن الدين بيبرس ، وذلك لتتمكن من الحكم بلا منازع.
وبالفعل تزوجت شجر الدر من عز الدين أيبك ، وتنازلت له عن الحكم ، فاستقر الوضع نسبيًا ، وبدأت شجر الدر تحكم من وراء الستار كما أرادت ، ولكن ذكاءها خانها فى اختيار ذلك الرجل ، إذ لم يكن عز الدين أيبك بالضعف الذى تخيلته شجر الدر ، وفى أول أمره ، لم يصطدم بشجر الدر أو المماليك ، بل بدأ بتقوية شأنه ، فاشترى المماليك الخاصة به ، وأعد قوة عسكرية تدين له بالولاء ، وقد وضع على تلك القوة أقوى رجاله ، وأعظم فرسانه ، وهو سيف الدين قطز.
ومرت الأيام ، وانتصر عز الدين أيبك على أمراء الشام ، واعترف الخليفة العباسي بزعامة عز الدين أيبك على مصر ، فكان ذلك رفعًا لأسهمه لدى الشعب المصري ، ومنحه صفة شرعية.
* بين أيبك وأقطاي:
كل تلك الأحداث مكنت عز الدين أيبك من التحكم فى مقاليد البلاد ، ومن ثم زاد نفور زعماء المماليك منه ، وخاصة فارس الدين أقطاي ، الذى كان يبادله كراهية معلنة ، الأمر الذى جعل عز الدين أيبك يفكر جديًا فى التخلص من أقطاي ؛ لضمان الأمان لنفسه ، وإثبات قوته للجميع.
انتظر أيبك الفرصة المناسبة ، إلى أن علم أن أقطاي يتجهز للزواج من إحدى الأميرات الأيوبية ، فأدرك أن أقطاي يحاول أن يجعل له انتماء للأسرة الأيوبية ، وإذا كانت شجر الدر حكمت مصر لكونها زوجة لملك أيوبي ، فلماذ لا يحكم أقطاي مصر لكون زوجًا لأميرة أيوبية ، فضلا عن قوته وبأسه وقيادته للجيش فى موقعة المنصورة؟
هنا شعر أيبك بالخطر الشديد ، فأصر أوامره بقتل فارس الدين أقطاي ، وبالفعل تم قتله على يد مماليك أيبك ، وبقتله خلت الساحة تمامًا لأيبك ، واضمحل دور شجر الدر ، وخاصة بعد هروب المماليك البحرية إلى الشام ، إذ كان من الممكن قتلهم بعد مقتل قائدهم.
* نهاية أيبك وشجر الدر:
مرت السنون ، والملك عز الدين أيبك مستقر فى عرشه ، واختفى دور شجر الدر ، وقد كان الحقد يغلى فى قلبها ، وقد كان أيبك يبادلها نفس الشعور ، وتزايدت أطماع أيبك فى الشام ، فأراد القيام بحلف مع أحد أمراء المنطقة ، وأراد توثيق الحلف برباط غليظ هو الزواج.
وعلمت شجر الدر بهذا الأمر ، فاشتعلت الغيرة فى قلبها ، وركبها الغم والهم ، وأعمتها الكراهية عن حسن تقدير الأمور ، وهي المشهورة بالحكمة ، فلم تقدر اختفاء المماليك البحرية ، وصعود نجم المماليك المعزية ، وقررت بعاطفة المرأة الإقدام على خطوة غير مدروسة ، وهي قتل زوجها عز الدين أيبك.
علم الجميع بجريمة القتل ، فأسرع سيف الدين قطز ، ومعه فرقة من المماليك المعزية ، وألقيا القبض على شجر الدر ، فطلبت زوجة أيبك الأولى ترك الأمور لها فى التصرف مع شجر الدر ، وكانت النهاية المأساوية المشهورة ، وهي قتل الملكة سابقًا ”ضربًا بالقباقيب“.
وقد تولى بعد ذلك حكم مصر نور الدين علي بن عز الدين أيبك ، وقد كان صبيًا لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره ، فتولى الوصاية عليه القائد العظيم والفارس الكبير ”سيف الدين قطز“.
* قطز على عرش مصر:
كم هي صغيرة تلك الدنيا!! ، فقطز هو محمود بن ممدود ، وهو ابن أخت السلطان جلال الدين الخوارزمي ، الذى قاوم المغول طوال حياته ، وانتصر عليهم انتصارات كبيرة ، وقد تم قتل الكثير من أسرته خلال معركته مع المغول على حافة نهر السند ، وكان محمود أحد الذين استرقهم المغول ، وقد أطلقوا عليه لقب قطز أي الكلب الشرس ، ثم اشتراه أحد الأيوبيين ، وترقى فى المناصب حتى صار أكبر قواد عز الدين أيبك كما رأينا.
نشأ قطز على التربية الدينية القويمة – كبقية المماليك – ، وتشبع بالحمية الإسلامية ، وتدرب على أساليب القتال ، فنشأ شابًا أبيًا محبًا للدين ، فكانت طفولته طفولة الأمراء ، إضافة إلى مقتل جميع أفراد أسرته على أيدى المغول ، وهذا بالطبع جعله يفقه جيدًا قضية الزحف المغولي ، وليس من رأى كمن سمع.
وفى ضوء الخطر المغولي الكبير ، والمشاكل الداخلية الطاحنة ، لم يجد قطز أي معنى لبقاء السلطان الطفل على عرش مصر ، فعزله عن العرش ، وتولى هو مقاليد البلاد ، وقد حدث ذلك إبان سقوط حلب بأيدى المغول ببضعة أيام ، وصار سليل المقاومين لزحف المغول يعد العدة لتبديد ذلك الزحف الجارف.
——————————–
* المصادر والمراجع:
(1) الكامل فى التاريخ ، ابن الأثير
(2) المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم ، ابن الجوزي
(3) البداية والنهاية ، ابن كثير
(4) السلوك لمعرفة دول الملوك ، المقريزي
(5) بدائع الزهور فى وقائع الدهور ، ابن إياس
(6) التاريخ الإسلامي (ج7: العهد المملوكي) ، محمود شاكر
(7) موسوعة التاريخ الإسلامي (ج5: تاريخ مصر والشام الإسلامي) ، أحمد شلبي
(8) دولة المماليك فى مصر والشام ، محمد سهيل طقوش
(9) موسوعة سفير فى التاريخ الإسلامي (ج5: العصر المملوكي) ، مفيد الزيدي
(10) موجز التاريخ الإسلامي ، أحمد العسيري
(11) التاريخ الإسلامي الوجيز ، محمد سهيل طقوش
(12) النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة ، ابن تغري بردي
(13) درة الأسلاك فى دولة الأتراك ، ابن حبيب