كان على سيف الدين قطز أعباء تعجز الجبال على حملها ، فالأزمات الاقتصادية الطاحنة تمر بالبلاد ، والعلاقات ممزقة مع البلدان المجاورة ، وشبح المغول يلوح فى الأفق ، والفتنة ناشبة بين المماليك الصالحية والمماليك المعزية ، تعالوا لنتناول بشيء من التفصيل عن وضع مصر عشية جلوس سيف الدين قطز على العرش ، وعن حالتها المزرية أثناء اجتياح الشام ، وعما فعله قطز من إعداد للمعركة ، وكيف استطاع قطز أخيرًا القضاء على زحف المغول.
* مصر قبل المعركة:
كان الوضع فى مصر متأزمًا جدًا ، فالمسرح الساسي كان يموج بالاضطرابات العاصفة ، والأزمات الشديدة ، وإن كان قطز قد استقر على كرسي الحكم ، لكن لا شك أن هناك الكثير من الطامعين ، ومن المؤكد أن هؤلاء سوف يتحركون لإقصاء قطز عن العرش ، أو قتله كما اعتاد المماليك أن يفعلوا.
كما كانت الفتنة دائرة بين المماليك البحرية والمماليك المعزية ، وقد فر كثير من المماليك البحرية إلى إمارات الشام ، وهذا الانقسام – بلا شك – أضعف القوة العسكرية المصرية.
وإذا كان المسرح الداخلي على تلك الصورة الخطيرة ، فإن المسرح الخارجي كان يحمل مشكلات كبيرة ، فالعلاقات ممزقة بين مصر وكل جيرانها ، بل كانت روح العداء شديدة بين الطرفين ، ومعنى ذلك أن تلك العزلة المقيتة ستسهل جدًا على الوحش المغولي ابتلاع مصر كما ابتلع غيرها.
أما عن الوضع الاقتصادي ، فكانت الأزمات الاقتصادية الطاحنة تمر بالبلاد من جراء الحملات الصليبية المتكررة ، ومن جراء الحروب المتكررة بين مصر والشام ، فتردى الاقتصاد إلى أبعد درجات التردى ، وباتت البلاد على حافة هاوية سحيقة شبه مؤكدة.
* الوحدة أداة لتهشيم الأزمات:
أولى الخطوات التى أقدم عليها سيف الدين قطز للخروج من الأزمة هي استقرار الوضع الداخلي لمصر ، وقطع أطماع الآخرين فى كرسي الحكم ، لكنه لم يفعل ذلك عن طريق التهديد والوعيد أو بالغش والتحايل ، ولكنه ارتفع بأخلاق منافسيه ، فاجتمع بالأمراء والقادة والعلماء والأعيان ، و وضح لهم أنه ما سيطر على الحكم إلا لقتال المغول ، و وعدهم بالتنازل عن الحكم إن استطاعوا كسر شوكة المغول.
ومع أن قطز قد استخدم الأهداف النبيلة لتجميع القواد حوله ، إلا أنه لم يتخل عن الحزم فى الإدارة ، فعزل وزيرًا لولائه الشديد لشجر الدر ، و ولى آخر يثق فى ولائه وقدراته ، وكذلك أقر قائد الجيش فى مكانه مع أنه من المماليك البحرية ، إلا أنه وجد فيه كفاءة عسكرية وقدرة قيادية ، وبذلك حفظ قطز الأمانة ، و وسد الأمر لأهله.
ثم أقدم قطز على شغل الناس بالجهاد فى سبيل الله ، فبمجرد اعتلائه عرش مصر أمر قائد جيشه ، بإعداد العدة وتنظيم الصفوف ، وبذلك استقرت الأحوال الداخلية فى مصر.
* المماليك البحرية تنضم إلى مصر:
أصدر قطز قرارًا بالعفو العام عن كل المماليك البحرية ، وكانت تلك الخطوة البارعة عاملاً من عوامل الوحدة ، فلا شك أن انضمام المماليك البحرية إلى المماليك المعزية سيكون جيشًا قويًا قادرًا على مواجهة قوات المغول ، وبالفعل توافد المماليك البحرية إلى مصر ، وعادت قوة المماليك واحدة كما كانت ، والأهم فى ذلك ، أنه قد عاد القائد الفذ ركن الدين بيبرس إلى مصر ، فكفاءته القتالية عالية جدًا ، وحميته الإسلامية كبيرة ، إضافة إلى ولاء المماليك البحرية الشديد له.
* الوحدة مع الشام:
بعد الاستقرار الداخلي فى مصر ، حرص قطز على الاستقرار الخارجي مع جيران مصر ، فالعلاقات كانت متوترة جدًا ، لكن سيف الدين قطز حرص على إذابة تلك الخلافات ، فأرسل رسالة إلى الناصر يوسف – قبل سقوط حلب – يعرض عليه الوحدة مع مصر ، ومساعدته فى مواجهة المغول ، بل والتنازل عن الحكم له ، لكن الناصر يوسف لم يستجب لذلك ، وآثر الفرقة على الوحدة ، وكان مصير جيشه الفرار ، ومصيره هو القتل بعد عين جالوت ، ولكن جيشه لجأ إلى مصر ، وبذلك ازداد جيش مصر قوة ورسوخًا.
لم يكتف قطز بهذه الجهود مع الناصر فحسب ، بل راسل بقية أمراء الشام ، فاستجاب له صاحب حماة والتحق هو وجيشه بجيش قطز فى مصر ، أما صاحب الكرك فقد آثر الحياد ، والبقاء مراقبًا للأحداث ، للالتحاق بعد ذلك بالمعسكر المنتصر ، أما صاحب حمص وصاحب بانياس ، فقد التحقا بالمغول وانضما بجيوشهما إلى هولاكو لمحاربة المسلمين!!
* أهل مصر قبل المعركة:
كان الشعب يعانى من أزمة اقتصادية طاحنة ، وعادة ما تفقد الأزمات طموحات الشعوب ، إلا إذا جاء من يحضهم على الجهاد فى سبيل الله ، فعندها يهون كل شيء ، وقد كان أهل مصر كغيرهم من الشعوب الإسلامية يصيبه الذعر الشديد والهلع الكبير عند السماع بأخبار المغول ، ولقد يسر لقطز مهمة تربية الشعب على معانى الجهاد قيمتان ، إحداهما احترام العلماء وتبجيلهم ، والأخرى قيمة الجهاد فى سبيل الله ، وقد كانت الحملات الصليبية سببًا فى بقاء الشعور بحتمية الجهاد فى مصر والشام.
* قطز فى المواجهة:
كثيرًا ما تُفرض المعارك على المسلمين فرضًا ، فبينما كان قطز فى إعداده السريع ، جاءته رسل هولاكو يخبرونه أن اللقاء أسرع مما يتخيل ، وأن الحرب على وشك الوقوع ، وما بين عشية وضحاها ستهجم جحافل المغول على مصر ، شاء قطز أم أبى.
لقد جاءت رسل هولاكو وهي تحمل رسالة تقطر سمًا ، وتفيض تهديدًا و وعيدًا وإرهابًا ، لا يقوى على قراءتها إلا من ثبته الله جل وعلا ، فعقد قطز مجلسًا استشاريًا مع كبار القادة والأمراء ، وبدأوا فى مناقشة تلك القضية ، وقد كان قطز أمام خيار واحد هو الحرب ، ولكن الاختيار على أمرائه صعب للغاية ، فالفجوة واسعة جدًا بين دولة المغول ودولة المماليك ، ولا مقارنة أبدًا بين أعداد المغول وأسلحتهم وأعداد المصريين وأسلحتهم.
حتى يحمس أمراءه وقادته ويشجعهم على المواجهة ، قرر قطز مواجهة المغول بنفسه ، وأن يكون على رأس الجيش الذى سيقارع جحافل المغول ، كما قام بقطع أعناق الرسل الذين أرسلهم هولاكو ، وذلك لقطع طريق الاستسلام على قادته ، وإعلان الحرب على المغول.
* المشكلة الاقتصادية:
كان على قطز تجهيز الجيش ، وإعداد التموين اللازم له ، وإصلاح الجسور والقلاع والحصون ، وإعداد العدة اللازمة للحرب ، وتخزين ما يكفى للشعب فى حال الحصار ، لكن الأزمة الاقتصادية التى تمر بالبلاد أزمة طاحنة ، فاجتمع قطز بالعلماء والقادة ، واقترح فرض ضرائب على الشعب ، إلا أن العالم الجليل العز بن عبد السلام رفض ذلك ، إلا بشرطين عسيرين ، أحدهما أن يفرغ بيت المال تمامًا مما فيه من أموال ومتاع يستعان به على الحرب ، والآخر أن يبيع الأمراء والأعيان كل ما لديهم وأن يقتصر كل فرد منهم على سلاحه وفرسه فقط!!
انصاع قطز والأمراء لأوامر العلماء ، فباعوا كل ما لديهم ، واكتشف قطز أن ما عند الأمراء يكفى لسد تلك الأزمة الطاحنة ، وبذلك تم تجهيز جيش عظيم مهيب ، جيد الإعداد ، وشديد البأس.
* التخطيط والإعداد للمعركة:
جاء وقت إعداد الخطة ، و وضع الخريطة لتحرك الجيش ، واجتمع قطز مع كبار القادة لبحث أفضل طريقة لحرب المغول ، وأفضل الظروف لتحقيق الانتصار ، واقترح قطز الخروج بالجيش لمقابلة المغول فى فلسطين ، لكن القادة هاجوا وماجوا واعترضوا على ذلك الرأي ، ورأوا بقاء قطز فى مصر يدافع عنها من داخلها.
بدأ قطز يناقش الأمراء ويشرح مزايا خطته ، فأمن مصر يبدأ من حدودها الشرقية ، ولن تكون مصر فى مأمن طالما أن فى الجوار دولة قوية معادية لها ، كما أن من الأفضل نقل المعركة إلى ميدان الخصم ، فذلك يوفر خط رجعة آمنًا إذا حدثت هزيمة للجيش ، وكذلك يكون فى يد المسلمين عنصر المفاجأة ، فيختاروا هم ميعاد المعركة ومكانها ، أما انتظار المغول كي تطول عليهم خطوط الإمداد ، أو إجبارهم على اجتياز صحراء سيناء ، فذلك لا فائدة منه ، وقد أثبت المغول أن لديهم قدرة عالية فى اجتياز الموانع الطبيعية المختلفة ، وحفظ خطوط التموين والإمداد.
* مشكلة عكا:
كانت بعض أجزاء فلسطين واقعة تحت نير الاحتلال الصليبي ، وكانت أقوى إمارات الصليبيين هي إمارة عكا ، وهي تقع فى طريق قطز إذا أراد محاربة المغول فى فلسطين ، فكان على قطز عدم فتح جبهتين فى وقت واحد وهو محاربة الصليبيين والمغول معًا ، وكذلك كان عليه الانتهاء من مشكلة الصليبيين فى عكا ، فيمكن حدوث تعاون صليبي مغولي ، وبذلك يقع الجيش الإسلامي بين شقي الرحا.
كان الصليبيون يكرهون المغول ، من جراء خيانتهم للعهود ، ومن جراء إعتداءاتهم المستمرة عليهم ، الأمر الذى شجعهم على إقامة هدنة مؤقتة مع قطز ، وقد أصر قطز على أن تكون الهدنة مؤقتة ؛ لأن الصليبيين – كالمغول – ليسوا إلا محتلين لبلدان المسلمين ، وهددهم قطز بأن أي خيانة للعهد ستجعل جيش المسلمين يترك المغول ويتجه بكل ثقله نحو إمارات الصليبيين ويبيدها ، و رغبهم ببيع خيول المغول – إذا انتصر المسلمون – بأسعار منخفضة ، فى مقابل إسهام الصليبيين فى إمداد الجيش بالمؤن والعتاد.
وبذلك أصبح الطريق إلى لقاء المغول آمنًا.
* جيوش المسلمين نحو فلسطين:
تجمع جيش المسلمين فى شرق القاهرة ، واتجه شرقًا حتى وصل إلى سيناء ، ثم تحرك شمالاً حتى وصل إلى ساحل البحر المتوسط ، فسار بحذائه نحو فلسطين ، ومن الجدير بالذكر أن ذلك الزحف كان فى فصل الصيف ، فى صحراء سيناء القاحلة ، ولا مدن آهلة فى تلك المنطقة سوى العريش ، وصبر الجيش المسلم ، وقد كان قطز يتحرك على تعبئة ، حتى يكون جاهزًا للقتال إذا فاجأته قوات المغول ، وقد وضع قطز على مقدمة جيشه ركن الدين بيبرس ؛ ليكون أول من يصطدم بالمغول ، وبالطبع تكون فرصة النصر أكبر على يد ذلك القائد الفذ ، وقد جعل قطز المسافة بين مقدمة الجيش وباقى الجيش كبيرة نسبيًا ، حتى إذا رآها جواسيس المغول اعتقدوا أن ذلك كل الجيش ، وبذلك تكون استعدادات المغول على ذلك الأساس.
* إلى عين جالوت:
اجتاز ركن الدين بيبرس الحدود المصرية ، ودخل رفح وخان يونس ، وبالفعل اكتشفت عيون المغول فرقة بيبرس ، واستعدت حامية غزة المغولية للقائه ، لكن بيبرس استطاع القضاء عليها ، وفر من استطاع الفرار ، و مني المسلمون بأن رأوا بأم أعينهم أن المغول كباقى جنس البشر يُقتلون ويفرون ويُأسرون.
بعد انتصار غزة اتجه جيش المسلمين إلى الشمال ، فمر على عسقلان ويافا وحيفا حتى وصل إلى عكا ، وقد تمت مراسلات بين قطز والصليبيين للتأكيد على الاتفاقيات السابقة ، ثم غادر قطز عكا وعزم على اختيار المكان المناسب للقاء المرتقب مع المغول.
فى تلك الأثناء كان كتبغا قد وصلته فلول المغول المنهزمين فى غزة ، فاتخذ كتبغا قراره بالتوجه بسرعة لحرب المسلمين ، واتجه بجيشه من سهل البقاع فى لبنان فعبر نهر الأردن ، واكتشفت الاستطلاعات الإسلامية تحركات كتبغا ، ونقلت الأخبار إلى قطز الذى كان قد غادر عكا واجتاز مدينة الناصرة ، حتى وصل إلى سهل عين جالوت ، وهي منطقة قريبة نسبيًا من منطقة حطين الذى استطاع فيها صلاح الدين دحر الصليبيين ، كما أنها قريبة من منطقة اليرموك التى استطاع فيها خالد بن الوليد أن ينتصر على الروم نصرًا مؤزرًا ، وبذلك ساهمت تلك الذكريات فى رفع الروح الإسلامية لدرجة عالية.
وجد قطز سهل عين جالوت منطقة مناسبة للمعركة ، فهو سهل واسع منبسط تحيط به التلال من كل جوانبه إلا الجانب الشمالي ، كما تعلو تلك التلال الأشجار والأحراش فيسهل ذلك عمل الكمائن ، وأخذ قطز يرتب جيشه ، فوضع على ناحية السهل الشمالية مقدمة جيشه بقيادة ركن الدين بيبرس ، بينما أخفى قطز بقية جيشه خلف التلال والأحراش.
كان ذلك يوم الرابع والعشرين من شهر رمضان شهر الانتصارات الإسلامية الخالدة ، وما بقيت إلا سويعات قليلة ويحدث الصدام المروع بين أمة الإسلام وقوة المغول.
* وتقابل الطرفان:
جاء جيش كتبغا تسبقه سمعته العالية فى سفك الدماء وتخريب الديار ، أما قطز فقد تفاجأ بأعداد غفيرة من المتطوعين المسلمين من أهل فلسطين يلتحقون بجيش المسلمين ، وقد تيقنوا أن ملحمة مروعة على وشك الالتهاب.
وبينما هم كذلك جاء رجل من أهل الشام ، وهو رسول لأحد أمراء المسلمين الذين دانوا بالولاء لهولاكو ، وأراد إفادة المسلمين قدر الإمكان ، فأرسل ذلك الرسول ليخبر قطز بأن جيش المغول ليس فى قوته المعهودة ؛ لأن عددًا منه التحق بهولاكو فى تبريز ، وأن ميمنة المغول أقوى من ميسرتهم ، فعلى قطز تقوية ميسرة المسلمين التى ستتصادم مع ميمنتهم ، وأخبر ذلك الرسول قطز أن أميره وأمير حمص (الأشرف الأيوبي) سوف يخرجون مع المغول ، لكنهم عقدوا العزم على الانهزام والانضمام إلى جيش المسلمين.
مع تلك المعلومات المهمة لم يهمل المسلمون إعدادهم ، فلعل تلك المعلومات خدعة من المغول ، وباتوا ليلتهم يتضرعون إلى الله ويدعونه أن ينزل نصره على المجاهدين ، وأشرقت شمس يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان ، وقد لاح فى الأفق جيش المغول.
* واحتدم اللقاء:
عند قدوم جيش المغول كان الجيش الإسلامي مختفيًا خلف التلال ، بما فى ذلك المقدمة بقيادة ركن الدين بيبرس ، فأمره قطز بالنزول بفرقته ، فنزلت مقدمة المسلمين بخطوات ثابتة وبنظام بديع ، وتتابعت كتائب المقدمة الإسلامية فى النزول إلى ساحة المعركة.
رأى كتبغا أن القوات الظاهرة أمامه قليلة جدًا ، ولم يكن يعلم بأمر القوات الرئيسية الرابضة خلف التلال ، فأراد حسم المعركة لصالحه ، وقرر الدخول بكامل جيشه لحرب مقدمة المسلمين ، فانهمرت جموع المغول الرهيبة على مقدمة جيش المسلمين ، وارتطم الجيشان ارتطامًا مروعًا ، وسرعان ما تناثرت الأشلاء وسالت الدماء.
كانت هذه الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين ، وقد أحسن قطز اختيار أفرادها لتحمل الصدمة الأولى ، أما كتبغا فقد استخدم كل طاقته ، ولم يترك أي قوات للاحتياط خلف جيشه ، ومع الفجوة الهائلة بين الفريقين إلا أن اللقاء سجالاً فى ساعاته الأولى.
كان الجزء الأول من الخطة الإسلامية استنزاف القوات المغولية ، والتأثير على نفسياتهم عند مشاهدة ثبات المسلمين وقوة بأسهم ، وقد تم تنفيذ ذلك الجزء بكل براعة ، وكان على ركن الدين بيبرس تنفيذ الجزء الثانى من الخطة ، وهو سحب جيش المغول إلى سهل عين جالوت ، بحيث تدخل قوات المغول فى الكمائن الإسلامية ، وكان ذلك الجزء صعبًا جدًا ، فكان على بيبرس التراجع بظهره وهو يقاتل ، على ألا يكون ذلك التراجع سريعًا جدًا فيلفت أنظار المغول إلى الخطة ، ولا بطيئًا جدًا فتهلك قوات المسلمين ، وبالفعل دخل جيش المغول بكامله سهل عين جالوت.
* المغول فى المصيدة:
نزلت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال إلى ساحة المعركة ، وأسرعت إحدى الفرق لتغلق المدخل الشمالي – والوحيد – لسهل عين جالوت ، وبذلك أحاطت القوات الإسلامية بالمغول إحاطة السوار بالمعصم ، ولكن ذلك كلف المسلمين جهدًا هائلاً ، فحصار المغول دون ترك طريق هروب لهم ، جعلهم يقاتلون قتال المستميت.
ظهر تفوق الميمنة المغولية ، وبدأت تضغط على ميسرة المسلمين ، وبدأت القوات الإسلامية تتراجع تحت الضغط الرهيب للمغول ، وبدأ الشهداء يتساقطون ، فدفع قطز قواته الاحتياطية إلى ميسرة المسلمين ، ولكن الضغط المغولي استمر ، وتأزم الموقف جدًا ، وهنا لم يجد قطز سوى حل وحيد لا بديل عنه.
* وا إسلاماه:
بدأ الشهداء يتساقطون ، وبدأ الجنود يتراجعون ، وهنا فعل قطز فعلا مجيدًا ، فقد ألقى بخوذته على الأرض ، وأطلق صيحته الشهيرة التى قلبت موازين المعركة ، فقد صرخ بأعلى صوته: ”واإسلاماه .. واإسلاماه“ ، ففوجئ الجند بوجود القائد بينهم يعانى ما يعانون ، ويشعر بما يشعرون ، ويقاتل كما يقاتلون.
وأدرك الجند أن القضية ليست حفاظًا على ملك أو حماية لكرسي ، وإنما إغاثة الإسلام والدفاع عنه ، فالتهب حماس الأجناد ، وهانت عليهم جيوش المغول ، وانطلقوا فى جسارة يصدون الهجمة المغولية الهائلة.
ثم صوب أحد المغول سهمه نحو قطز ، فأصاب الفرس الذى كان يمتطيه قطز ، وقُتل الفرس من ساعته ، فترجل قطز على الأرض ، وقاتل ماشيًا! ، فجاءه أحد الأمراء مسرعًا ، وتنازل له عن فرسه ، إلا أن قطز امتنع ، وظل يقاتل ماشيًا إلى أن جاءه فرس من الخيول الاحتياطية ، وبدأت الكفة تميل من جديد لصالح المسلمين ، وارتد الضغط على المغول ، وأطبق المسلمون الدائرة على المغول ، وكان يومًا على الكافرين عسيرًا.
* مصرع الطاغية:
تقدم أمير من المماليك المهرة فى القتال ، واخترق صفوف المغول كلها فى حملة صادقة موفقة ، حتى وصل إلى كتبغا قائد المغول ، ورفع البطل سيفه ، وذبح طاغية المغول ، فسقطت كل عزيمة تبقت عند جيش المغول ، وما أصبح لهم من هم إلا فتح طريق لأنفسهم ؛ ليتمكنوا من الهرب ، وانطلق المسلمون خلفهم ، يقتلون فريقًا ويأسرون فريقًا ، وسقطت جحافل المغول تحت سنابك خيل المسلمين صرعى ، وضاعت سمعتهم ، وسقطت هيبتهم ، ومزق جيشهم.
* نهاية الأسطورة:
استطاع المغول بعد جهد كبير فتح ثغرة فى مدخل عين جالوت ، وانطلقوا فى سرعة عجيبة يولون الأدبار ويسرعون الخطى نحو الشمال ، وجيوش المسلمين تلاحقهم ، حتى وصل المغول إلى بيسان ، والمسلمون ما زالوا خلفهم ، و وجد المغول أن المسلمين جادون فى طلبهم ، فاصطفوا من جديد ، لتدور موقعة أخرى عند بيسان ، كانت أشد هولاً من الأولى ، فقد قاتل المغول دفاعًا عن أنفسهم وحياتهم بكل قوة ، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدًا ، لكن قطز تضرع إلى الله بالدعاء ، فما كان إلا وخارت قوات المغول ، وبدأوا يتساقطون كالذباب على أرض بيسان ، وارتفعت راية المسلمين ، وتهاوت راية المغول بعد أربعين سنة من العتو فى الأرض.
وخار قطز على الأرض ساجدًا لله ، وشاكرًا له على نصر المؤمنين ، ودحر قوى الكافرين ، ونصر الله الذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
——————————–
* المصادر والمراجع:
(1) الكامل فى التاريخ ، ابن الأثير
(2) المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم ، ابن الجوزي
(3) البداية والنهاية ، ابن كثير
(4) السلوك لمعرفة دول الملوك ، المقريزي
(5) بدائع الزهور فى وقائع الدهور ، ابن إياس
(6) التاريخ الإسلامي (ج7: العهد المملوكي) ، محمود شاكر
(7) موسوعة التاريخ الإسلامي (ج5: تاريخ مصر والشام الإسلامي) ، أحمد شلبي
(8) دولة المماليك فى مصر والشام ، محمد سهيل طقوش
(9) موسوعة سفير فى التاريخ الإسلامي (ج5: العصر المملوكي) ، مفيد الزيدي
(10) موجز التاريخ الإسلامي ، أحمد العسيري
(11) التاريخ الإسلامي الوجيز ، محمد سهيل طقوش
(12) النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة ، ابن تغري بردي
(13) درة الأسلاك فى دولة الأتراك ، ابن حبيب